الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى اللّه تعالى: قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً} من الضلال وإرشاد للحق {وَشِفاءٌ} من مرض الشرك والشك الذي يحوك بالقلب وبعض الأمراض لصاحب اليقين القوي الاعتقاد، راجع الآية 80 من سورة الإسراء ج 1، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} به {فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} ثقل وصمم عن سماعه {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} لا يبصرونه لأنهم لا ينظرون إليه عن صدق وحقيقة ولا يسمعونه سماع قبول فيكون ظلمة وشبهة ومرضا عليهم فهو بآن واحد نور لأناس ظلمة لآخرين، لأنهم لا ينتفعون به فيكون عليهم بالضد من غيرهم {أُولئِكَ} الصم العمي عن القرآن {يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} 44 فلم يسمعوا ذلك النداء ولم يعوه، شبه اللّه تعالى عدم فهمهم بما دعوا إليه بمن ينادى من مسافة بعيدة فإنه إن سمع الصوت لا يفقه المعنى، وهو مثل يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من مكان بعيد، والنداء على الشخص من بعد فيه إهانة له وعدم اكتراث به، ولهذا فإن الكفرة يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأشنع أسمائهم من مكان بعيد هوانا بهم وإذلالا لهم، فتعظم السمعة عليهم وتتكاثف المصائب بفضيحتهم على رءوس الأشهاد.قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} من قبل قومه، فمنهم من آمن ومنهم من كفر مثل قومك يا محمد {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بتأخير العذاب {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا وأهلكوا جميعا كسائر الأمم السالفة، ولكن أرجأناهم بمقتضى سابق علمنا ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 45 صفة مؤكدة للشك، كما أن قوم موسى كانوا في ريب من كتابهم {مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 46 فلا يعذب إلا المسيء بحسب إساءته فقط، وحاشاه من الظلم، وقدمنا في الآية 16 من سورة يونس المارة ما يتعلق بعدم جواز نسبة الظلم إلى اللّه فراجعها، ونظير هذه الآية الآية 15 من سورة الجاثية الآتية، إلا أنها ختمت بغير ما ختمت به هذه.قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} عند السؤال عنها، أي إذا سئلت يا سيد الرسل عن زمن القيامة فقل علمها عند اللّه وحده {وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها} أو عينها، ومن الأولى مؤكدة للتنكير مما يزيد عمومه وإطلاقه، أي مطلق ثمره من جميع أنواعها، وكذلك من قوله: {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} وأمره وإرادته أي لا يكون شيء من ذلك كما لا يكون غيره بغير علم اللّه وأنه ما يقع من ذلك على لسان بعض العارفين من الإخبار بوقت الإثمار ووقت تكون الحمل وزمن الوضع وبيان الموضع، هو من إلهام اللّه تعالى إياهم.أما ما يقوله المنجمون والسحرة والكهنة فمن طريق الحسبان والظن والتوسم، راجع الآية 76 من سورة الحجر المارة تجد هذا البحث مستوفيا {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي} الذين سميتموهم بالدنيا أحضروهم إليّ الآن لأسألهم عن الذي حدا بهم لهذه الدعوى الباطلة {قالُوا آذَنَّاكَ} أخبرناك يا ربنا وأعلمناك بأنه {ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} 47 الآن بأن لك شركاء البتة، وذلك لأن الذين اتخذوهم شركاء ينكرون ذلك ويتبرءون منهم عند معاينة العذاب، وقبله في الوقف وهو الحساب.قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ} من الشركاء {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا {وَظَنُّوا} أيقنوا إيقانا لا ريب فيه أنهم {ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} 48 من العذاب ولا محيد عنه وحاص بمعنى عدل ومال وماد وحاد وهرب، والأنسب بالمقام ما ذكرناه {لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ} لا يمل ولا يضجر من تكرار طلبه بل يظل يسأله مالا وولدا وجاها ورياسة وعافية بصورة دائمة، ولو أعطى أحدكم نهرين لتمنى الثالث {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} من شدة وفقر وفاقة أو مرض وذل أو فقد شيء ما {فَيَؤُسٌ} شديد اليأس من روح اللّه {قَنُوطٌ} 49 كثير التفاؤل بالشر وقطع الرجاء من رحمة اللّه وفضله، ولقد بولغ هذا الكلام من جهتين من جهة الصيغة، لأن فعولا من صيغ المبالغة، ومن جهة التكرار، وهذه صفة الكافر بالدنيا والآخرة أيضا.قيل نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة، وهي عامة يدخل في عمومها هذان الكافران وغيرهما دخولا أوليا.قال تعالى في وصف هذا الكافر أيضا {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا} من غنى وعافية ورياسة {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} من فقر ومرض وذل {لَيَقُولَنَّ} بلا حياء ولا أدب {هذا لِي} حقي استحقيته بعملي {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ} التي تخبرنا بها يا محمد {قائِمَةً} واقعة، يريد أنه ليس موقنا بالبعث، وأن أهل هذه الدنيا يحيون حياة ثانية، ثم أقسم الخبيث فقال: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي} على فرض صحة قولك {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} المنزلة الحسنة بالآخرة أيضا كما هي بالدنيا على فرض وجودها، وهذا قياس مغلوط أشبه بقياس أخيه إبليس الذي أشرنا إليه في الآية 12 من الأعراف في ج 1، لأن نعم الدنيا لا يستدل بها على نعم الآخرة من حيث حيازتها، لأن الدنيا تملك بالمال والآخرة بالأعمال.قال تعالى مقسما ومؤكدا {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أمثل هذا القائل أن الأمر ليس كما زعم وأنهم مستحقون الإهانة لا الكرامة {بِما عَمِلُوا} في الدنيا من السوء ثم أقسم ثانيا فقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} 50 شديد لا يطاق في نار جهنم على ما فرط منهم.قال تعالى: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى} تباعد بطرا عن شكر المنعم {بِجانِبِهِ} بنفسه تعاظمأ وتكبرا ووضع الجانب مكان النفس، لأن مكان الشيء وجهته لينزل منزلة نفسه، ومنه قول الكتاب في مكاتباتهم إلى جناب وجانب فلان يريدون نفسه وذاته، وعليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ} الآية 46 من سورة الرحمن ج 3 أي ذاته، وقول الشاعر:وقال أبو عبيد نأى نهض بجانبه وهو عبارة عن التكبر وشموخ الأنف، هذا وقد يعبر عن ذات الشخص بالمقام والمجلس بقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم ويتركون التصريح لزيادة الاحترام، قال زهير: وليس من هذا قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الآية 36 من سورة النساء ج 3، وقوله تعالى: {عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} الآية 56 من سورة الزمر المارة كما ستطلع عليه في تفسيرها إن شاء اللّه {وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} 51 كثير مستمر كناية عن الإقبال على الدعاء بكليته والإلحاق به والابتهال صباح مساء، والعرض من وصف الأجسام وهو أقصر الامتدادين والطول أطولهما، ويفهم عرفا من العريض العظم والاتساع، يقال بالقلم العريض أي الكبير الذي يقرأ عن بعد، وإن صيغة المبالغة وتنوين التنكير فيه يشعران بذلك.ويستلزم وصف الدعاء بالعرض وصفه بالطول أيضا، هذا وقد تضمنت هذه الآيات نوعين من طغيان الإنسان الأول شدة حرصه على جمع الدنيا وشدّة جزعه على الفقد، والتعريض بتظليم ربه، تعالى عن ذلك، في قوله هنا لي مديحا فيه سوء اعتقاده بالمعاد المستجلب لتلك المساوى كلها، والثاني بين طيشه المتولد عنه إعجابه بنفسه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها، وقد ضمّن ذلك ذمّه بشغله بالنعمة عن المنعم بالحالتين أما في الأولى فظاهر، وأما في الثانية فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم، بل تأسفا على الفقد المشغل عن المنعم كل الإشغال، تدبر، قال تعالى أيها الناس {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ} هذا القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كما ذكرت لكم {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} لقولكم إنه ليس من عنده، أخبروني {مَنْ أَضَلُّ} منكم بتجارئكم على هذا القول، وقد وضع محل هذه الجملة {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ} خلاف {بَعِيدٍ} 52 عن الحق وهو أبلغ إذ تفيد لا أضل منكم أبدا، لأنكم في خلاف بعيد غاية البعد عن الحق السوي، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا} عند حلول الوقت المقدر لخذلانهم {فِي الْآفاقِ} نواحي الأرض شرقا وغربا، ومن جميع جهاتها، وأفاق السماء نواحيها وجوانبها أيضا، والأفق القطر وما تراه من اتصال السماء بالأرض يسمى أفقا أيضا، وفسر بعض المفسرين هذه الآية بما أجراه اللّه تعالى على يد نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه وخلفائه الكرام رضي اللّه عنهم ومن حذا حذوهم وتبع خططهم من فتوحات البلاد والقرى والاستيلاء على الأراضي الدالة على قوة الإسلام ومتانة شكيمة المسلمين للمؤمنين الذين اخترقوا البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وافتتحوها وكانوا واسطة هداية أهلها، وعلى وهن الباطل وتفرق جنده وتشتيت أهله وخذلان الكفرة وإذلالهم، وذلك استدلالا من معنى السين في {سنريهم} لدلالتها على الاستقبال أي أنّا سنري أصحابك وأمتك بعدك آياتنا الدالة على قدرتنا بمحق الباطل وإظهار الحق من بعدك، كما أريناكه في حياتك، وعليه يكون الخطاب في الآية عاما للكافرين والمؤمنين الموجودين زمن صاحب الرسالة فمن بعدهم، ولا مانع من ذلك {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} نريهم آياتنا أيضا بإنزال البلاء على الكافرين من قحط أو خوف وقتل وأصر وجلاء كما أراهم في بدر وما بعدها من المواقع وزمن الفتح وبعده، وبمقابل هذا للمسلمين رخاء وظفر وعز وغنيمة، وفي هذه الآية على التفسير الأول إشارة إلى فتح مكة عنوة لما فيها من معنى لتهديد في لفظ سنريهم والوعيد وهو من الإخبار بالعيب وإن مكة شرفها اللّه لم تفتح عنوة على يد أحد قبله قط، وعلى التفسير الثاني إلى فتح بلاد العرب خاصة استشعارا من قوله: {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} والبلاد الأخرى عامة وإلى أن ذلك كله كائن لا محالة لإخبار اللّه تعالى به، وهذا وإن كان فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلاد فهو آية بالنسبة إلى الأنفس، ونفس الإنسان فيها آيات كثيرة لم يحط بها البشر، ومن قرأ علم التشريح ووقف على ماهيته وشاهد تراكيب الإنسان عرف مغزى قول علي كرم اللّه وجهه: ومن العجيب أن بعض العلماء بالطب مع وقوفهم على علم التشريح ينكرون الإله مع أن المنكر يجب أن يؤمن لما يرى من صنع المبدع في هذا الوجود، ولكن من يضلل اللّه فماله من هاد {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ} القرآن المخبر عن ذلك هو {الْحَقُّ} المنزل من عند اللّه العاوي عن كل شائبة {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} يا سيد الرسل الذي أنزل عليك هذا القرآن وجعل فيه بيانا لكل شيء مما كان ويكون {أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 53 لا يغيب عن علمه ما يقع في جميع مكوناته وإن كل ما يجري فيها يراه ويسمعه وتكون بأمره وإرادته، قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ} قومك يا حبيبي مع ظهور هذه الآيات المثبتة للتوحيد والتنزيه والأمر بالعدل والإحسان، لم يزالوا {فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ} في الآخرة لأنهم ينكرون البعث وسيعلمونه حين يشاهدونه {أَلا إِنَّهُ} ذلك الإله الواحد العظيم القادر على كل شيء {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} 54 إحاطة ضافية لعلمه بواطن الأمور وظواهرها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء البتة.ولعظم شأن معاني هذه الآية رءف فيها أداة التنبيه ليتنبّه القارئ إلى معانيها ويتذكر ويتفكر فيما انطوت عليه هذا.ومنا قيل إن هذه الآية تنبئ عن أن علوم اللّه تعالى غير متناعيه، قيل ولولا يلتفت إليه بل إنها تفضي أن علمه محيط بكل شيء من الأشياء، وتقيد أن كل واحد منها مثناه لا كون مجموعها متناهيا، ولا أن علوم اللّه متناهية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه السورة.هذا، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، آمين، والحمد للّه رب العالمين. اهـ.
|